ناصر الحجيلان
تعيش الحكومة الأمريكية حاليًا توترًا جديًا، إذ تترقب نشر وثائق حساسة في موقع ويكيليكس ربما يضعها وغيرها من دول العالم مثل تركيا وبريطانيا والدنمارك في حرج شديد ممّا قد يشكك في مصداقية سياسة تلك الدول. ويكثر الحديث عن ماهية هذه الوثائق وكيفية وصولها، ولكن قبل الخوض في ذلك ربما من المفيد التعرف أكثر على هذا الموقع الذي بث الخوف لدى حكومات ضارية.
موقع ويكيليكس أو تسربات الوكي، ظهر لأول مرة في شهر يناير من عام 2007 وهو موقع عالمي يشارك فيه منشقون من الصين، وإعلاميون ومفكرون من أوروبا وأمريكا وأستراليا وتايوان وجنوب أفريقيا وغيرها من الدول، ولديه أكثر من 1200 متطوع متعاون حول العالم، ويدير الموقع بشكل كامل خمسة أشخاص، يعملون مع 800 شخص متعاونين بشكل غير كامل والجميع لا يصله أي ربح مادي من هذا العمل، ومديره الحالي وفق مقالة منشورة في مجلة النيويورك الأمريكية هو الإعلامي والناشط الأسترالي جوليان أسانج. وهدفه الأساسي وفق ما هو منشور على الموقع هو فضح التعدّيات على حقوق الإنسان في كل مكان، والمساعدة على رفع الظلم بكشف الحقائق المنسية والمغيبة.
وقد يتبادر إلى ذهن البعض أن هذا الموقع ليس سوى صورة مقلقة من الصحافة الصفراء، ولكن واقع الحال هو أنه موقع جاد رغم أنه ثوري بنزعته؛ وله فكرة واضحة، ومدعوم بحرية الصحافة التي تحمي الفكر الإنساني الإبداعي الحر. وقد فاز هذا الموقع بعدد من الجوائز العالمية منها: جائزة الإعلام الجديد في عام 2008، وجائزة بريطانيا من منظمة الأمنستي العالمية في عام 2009، وفي عام 2010 وضعت الصحف الأمريكية موقع ويكيليكس على رأس قائمة المواقع التي تغيّر وجه الإعلام بشكل عام والأخبار على الخصوص.
وقد نشر موقع ويكيليكس هذا العام وثائق سرية يفوق عددها 76 ألف وثيقة حول حرب العراق تظهر الكثير من تعدّيات الجنود الأمريكان على المدنيين العراقيين، إلى جانب نشرها إلى مايقارب 400,000 وثيقة سرية عن حرب أفغانستان؛ كما نشر محتوى رسائل إلكترونية لسارة بيلين وهي مرشحة الجمهوريين السابقة لنائب الرئيس مع المرشح الجمهوري السابق جون مكين. وهذه الوثائق السياسية الحساسة قد تعرض بعض ناشريها أو مزوديها للخطر خصوصًا في بعض بلدان الشرق، وقد تعرّض بالفعل أحد الناشطين الصينيين للمجازاة بعد أن سرب وثائق حول مجازر الصين في تايوان. ولكن رغم الأخطار التي قد يتعرض لها المتعاونون مع هذا الموقع إلا أنه لازال قائمًا. هذا، مع العلم أن موقع ويكيليكس يعاني الكثير من المشكلات المالية، مما اضطره للإقفال في ديسمبر من العام الماضي لقلة الميزانية؛ ولكنه عاود الظهور من جديد مطلع هذا العالم ليعيش فترة أخرى من القحط المالي. ومع ذلك، فها هو الآن ينتعش بشكل كبير وبدأ الكثيرون يقرأون عنه ويترقبون أخباره التي أرعبت بعض الحكومات في الغرب. والحقيقة أن القائمين على الموقع باتوا محاربين في الكثير من الدول بما فيها الدول الغربية التي تحمي الحريات الإعلامية، مما دعا مدير الموقع في شهر نوفمبر الحالي للمطالبة باللجوء السياسي لدى سويسرا ونقل الموقع هناك لأنها - وفق كلامه - البلد الوحيد الذي سيشعر فيه بالأمان وستكون ويكيليكس هناك بخير.
والحقيقة أن نشر بعض الوثائق حول بعض القضايا الإنسانية قد يكون مفيدًا كما في فضح التعديات الإنسانية، ولكن الأمر ليس بهذه السهولة وعلى الأخص أن بعض هذه الوثائق أخذ طابعًا رسميًا في مناقشة بعض القضايا بعيدًا عن العاطفة التي قد لايقدرها كثير من العامة.
إن فكرة الموقع هو أن يكون الشعب أو الناس بشكل عام حامين لأنفسهم وللعدالة بالتحقق من الأمور والتعرف على الحقيقة بدون رتوش ولا تزيين. وهذه فكرة مجردة ويظل التساؤل هل كل من سيقرأ هذه الوثائق سيكون على مستوى مطمئن من التوازن والفهم والدراية لموازنة الأمور بشكل واقعي وفهم القضية، أم أن مثل هذه المكاشفات ستفتح بابًا للعنف من باب تصحيح الخطأ بالقوة؟
هذه كلها تساؤلات مشروعة ومحتملة، ولكن يبقى الأمر الذي يصعب الاختلاف عليه وهو جرأة القائمين على هذا الموقع وقوة عزيمتهم. ولاشك أن إيمانهم برسالتهم هو الذي جعل كل هذه المصاعب شيئًا مقدورًا عليه تمامًا لأن الرسالة الإنسانية هي الأهم. وبغض النظر عن الموقع ورسالته وعمله واتفاقنا معه من عدمه إلا أنه يمكن الحديث بشكل حيادي بحت عن جدية العمل التطوعي العالمي، وربما يتبادر إلى الذهن العمل الإنساني من خلال منظمات الأمم المتحدة وقد يكون ممتعًا لو قمنا بعمل مقارنة بسيطة بين ممثلي المنظمة من المشاهير العرب ونظرائهم من الأجانب وحينها سنرى فرقًا كبيرًا لن نضيع كثيرًا في وصفه. فالممثل أو الممثلة من العالم العربي الذي يحمل لقب سفير نوايا حسنة أو خلافه من الألقاب الأخرى لانراه مع اللاجئين حول العالم ولا نشاهده عند مخيمات النازحين وعند المرضى والمنكوبين لكي يكون أول من يمد يد العون للمحتاج بغض النظر عن دينه وعرقه. في حين أن هذه الصور حاضرة وبكثرة لدى الأجانب ويبقى التساؤل هنا مدويًا عن مدى فهمنا للعمل الإنساني، وهل يبقى لونه مرتبطًا بعرق معين أو دين بذاته والآخرين لانراهم بشرًا؟ هل تسامحنا الديني وتفهمنا للآخر له حد أم أن الأمر لايعدو كونه كسلًا وخيبة محفوفة بخوف ووسواس؟
إن الإيمان بالرسالة الإنسانية رغم الصعاب هو شيء ضروري وقد نختلف مع النزعة الثورية لموقع ويكيليكس وماقد يثيره من مشكلات؛ لكن يمكن النظر إليهم على أنهم يمثلون نمطًا نفسيًا يضم مجموعة كبيرة متنوعة للناشطين الإنسانيين حول العالم.
* نقلاً عن "الرياض" السعودية
الرئيسية 
